Ahmed المدير العام
عدد الرسائل : 407 العمر : 36 تاريخ التسجيل : 22/10/2008
| موضوع: نحن شعب بغيض " 3 " 2008-12-08, 9:52 pm | |
| د. نبيل فاروق
اقتصادنا في حالة متدهورة للغاية... الدخول منخفضة إلى حد يصعب معه على الفرد العادي أن يحيا بكرامة، ومعدلات الإنتاج أكثر انخفاضاً، حتى إن الدراسات الاقتصادية العالمية تقول إن فترة إنجاز الموظف الحكومي لا تتجاوز الساعات الست أسبوعياً في المتوسط، وفرص العمل شحيحة وقليلة، والمغريات من حولنا كثيرة، وربما أكثر مما ينبغي، ونحن نلوم الحكومة والنظام والحظ والنصيب طوال الوقت... ولا نلوم أنفسنا أبداً..
ولكن الواقع أننا، لو قررنا أن نكون صرحاء مع أنفسنا، واعترفنا بأننا لسنا شعباً مضبوطاً أو منطقياً، وأننا قد تحولنا في العقود الخمسة الأخيرة إلى شعب يمكن أن يوصف بأي مقياس عالمي علمي بأنه شعب بغيض، فقد يدفعنا هذا إلى العمل على تحسين أنفسنا، وإدراك أننا في الواقع الملومون الأوائل عن كل ما نعانيه، حتى ولو عشنا سنوات نتصور عكس هذا... الدخول منخفضة... هذا صحيح، ولكن المشكلة الحقيقية لا تكمن في انخفاضها، بقدر ما تكمن في عادة التباهي العجيبة، التي اكتسبناها دون أي مبرر علمي أو منطقي أو عقلاني أو على أي مقياس...
فمن المعتاد الآن أن تجد شخصاً محدود الدخل يكفيه دخله للعيش بالكاد، ويجاهد كل يوم لركوب المواصلات العامة، وتوفير كل قرش لشراء المستلزمات الضرورية للحياة، وعلى الرغم من هذا فهو يسعى في استماتة لامتلاك هاتف محمول، والتباهي بحمله؛ حتى لا يختلف عن أقرانه...
ولأن الهاتف المحمول ليس رخيصاً، وسيستنزف جزءاً كبيراً من دخله، فهو يدّخر من قروشه القليلة بضع عشرات من الجنيهات، ليبتاع بها هاتفاً محمولاً رخيصاً، أو مستعملاً، أو حتى مسروقاً، وهو يعلم حتمية أن يكون كذلك، وأنه من الخطأ والبغيض والحرام أيضاً أن يشتري سلعة مسروقة، فإنه بذلك يكون شريكاً في الجريمة، ومشجعاً لنقيصة مدمرة للمجتمع، ولكنه يتعامى ويدير عينيه عن كل هذا، ويضع لنفسه عشرات المبررات، مثل أنه يتجاهل كونها مسروقة، وأنه غير مسئول عن سرقتها، وأنه... وأنه... المهم أن يحصل على الهاتف المحمول... وأن يحمله أمام الناس... ويتباهى به!!..
في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي من أعلى البلدان في الدخل القومي، وفي نصيب الفرد، من النادر أن تجد من يحمل هاتفاً محمولاً، على الرغم من أن الهاتف المحمول يباع مع الخط هناك بخمسة عشر دولاراً فحسب، وبالنسبة لمستوى الدخول، فهذا يساوي خمسة عشر جنيه مصري تقريباً... ولكن لماذا يشتريه ويحمله ما دام ليس رجل أعمال، ولا يحتاج فعلياً له؟!... هكذا يفكرون... وهكذا نفكر، ونفعل... ونتباهى... كل الأسر، حتى محدودة الدخل منها، تتباهى وتتنافس في إقامة حفلات الخطبة والزفاف...
العروسان يقاتلان لإقامة حفل زفاف، يفوق حفل زفاف قريبتهما، أو زميلتهما، أو جارتهما، ويستدينان المئات أو الآلاف من أجل هذا، ومن أجل بضع ساعات، يتباهيان بها أمام معارفهما... ثم يقضيان سنوات، لسداد تكلفة حفل الزفاف... وسنوات أخرى لقضاء أشياء ضرورية، كان من الممكن أن يمتلكاها في يسر وسهولة، لو أقاما حفل زفاف بسيط... ولكنه التفاخر... والتباهي... وغياب العقل والمنطق...
ولأننا لسنا شعباً بسيطاً أو متسامحاً، فما من مخلوق سيخرج من حفل الزفاف -الذي أرهق أسرتين كاملتين، وأسرة صغيرة كان ينبغي أن تبدأ حياتها بنحو أفضل- وهو يقول كلمة مدح واحدة فيه... فمن الأمور البغيضة في تكويننا أننا لا نرى من الأمور سوى نواقصها وأوجه ضعفها وقصورها فقط... فالحفل لم يُدَرْ بالشكل المناسب... والموسيقى كانت صاخبة أكثر مما ينبغي... وأم العروس كانت متعجرفة ووالد العريس لم يرحب بالمدعويين كما ينبغي... وحتى ثوب الزفاف نفسه، لم يكن مناسباً للعروس... و... و... و...
المهم أن تدمر ما فعله، وضحى به، وقاسى من أجله الكل... ثم نشكو بعدها من نقص الدخول، وصعوبة المعيشة، ومشكلات الحياة، ونحن في الواقع السبب الرئيسي لكل هذا... وحتى العمل نفسه، ننتظر أن يعود إلينا بدخل جيد وحياة كريمة، ولكننا لا نريد أن نمنحه نحن ما يريده على نحو جيد، وكأن الدخول ستأتي في معونات أجنبية، وليس من ناتج العمل نفسه... كل موظف في مصر يذهب إلى عمله مكتئباً متبرماً، حتى لو كان عملاً خاصاً وليس حكومياً... وفي العمل يبذل جهداً كبيراً... حتى لا يعمل!... يبدأ يومه بالأحاديث، ويلوك مع زملائه سيرة كل من يعرفونه ويغيب عن مجلسهم، ثم يبحثون عما سيتناولونه في الإفطار... ويفطرون... ثم يشربون الشاي.. ويستريحون... وبعدها يبدأون العمل... ثقالاً متضررين... أليس هذا ما يحدث فعلياً...
إذا ما حاولت أن تذهب إلى أي مكان مبكراً، فستجد موظفيه يتناولون إفطارهم، وسيطلبون منك في غلظة أن تنتظر حتى ينتهوا، وكأن من حقهم أن يضيعوا وقت العمل في تناول الطعام... وكأن سرقة وقت العمل من حقهم، وأنها ليست عملاً بغيضاً، سخيفاً، مؤثماً، وغير قانوني أو مشروع أيضاً... ولكن هكذا العادات السيئة، الشيطان يجعلها تجد سبيلاً بين الناس في سرعة، حتى ينسوا مع الوقت أنها عادة سيئة، فينغمسون فيها، ويحاربون كل من يرفضها، أو حتى كل من يحاول التعليق عليها...
وبعدها يشكو الكل من نقص الدخل القومي، ومن ضيق الحال، وضيق ذات اليد... وكأن الدخل يولد من فراغ، وليس من عمل!! قيمة العمل نفسها متدنية في المجتمع إلى حد مخيف... أية أسرة محدودة الدخل، من بقايا الطبقة المتوسطة، ترفض بشدة أن يعمل أولادها في الصيف، أو في فترة الإجازات، وتستنكر هذا بشدة، حتى لا يقول من حولهم إنهم في حاجة للعمل!... على الرغم من أنهم في حاجة إليه فعلياً!... حتى نوع العمل نفسه يتعالون عليه مهما كانوا في حاجة إليه...
هذا لأننا -فعلياً- لا نحترم العمل نفسه كقيمة... بل نبحث عن العمل كدخل، وكنوع من التباهي أيضاً... آلاف الشباب يجلسون في بيوتهم، ويشتكون من البطالة، ومن انعدام الدخل، ولكنهم يرفضون بشدة في الوقت نفسه أن يعملوا في مكان أو وظيفة تحتاج جهدا فعليا، أو عملا حقيقيا... إنهم يبحثون عن وظيفة... وظيفة إدارية، مكتبية، ساكنة... ومريحة... الكل يبحث عن الراحة، وليس عن العمل... ثم يبحث بعدها عن دخل جيد، وحياة كريمة... تماماً كما لو أنك لا ترغب في أن تصلي أو تصوم أو تفعل أي شيء، وتطلب في الوقت نفسه أن تدخل الجنة، مع الصدِّيقين والشهداء!!..
هناك بالطبع فئة من المجتمع تعمل بجد وجهد وكفاءة، ولكنها للأسف نسبة أقل من أن تقيم مجتمعاً سليماً... ثم كيف تعامَل هذه الفئة؟!... كلنا نطالبهم بالمزيد والمزيد من العمل، كما لو أن تلك الفئة هي المسئولة عن المجتمع كله، وعن إعالته ورعايته... بل إن البعض قد يسخر منها، ويعتبرها فئة ساذجة تعمل على الرغم من الدخول الضعيفة، التي تسببت فيها الفئة الكسول!... هذه هي قيمة العمل حولنا... وهذا هو حالنا، من قلة ما نبذله في العمل... نقص في الدخول... قلة في العيش... ضعف في الاقتصاد... ولأننا نرفض أن نعترف، فنحن نلوم الحكومة والنظام... وأنا أيضاً ألومهما؛ لأنهما لم يضعا نظاماً يجبر الكل على العمل، كما تفعل الدول ذات الاقتصاد الجبار... ولكن العيب ليس فيهما وحدهما... بل فينا أيضاً... فينا كشعب...
المصدر: بص وطل | |
|